×

 فوردو والصبر الاستراتيجي

 فوردو والصبر الاستراتيجي

عبد الحسين شعبان

أكاديمي ومفكّر عراقي

حين وجّهت إسرائيل ضربة موجعة ومباغتة وسريعة إلى إيران، دفعتها إلى تغيير قواعد “ديبلوماسية الصبر الاستراتيجي” التي اتّبعتها معها ومع الولايات المتحدة، إلى قواعد “ديبلوماسية المواجهة الاستراتيجية“، وهذه الأخيرة لم تكن إيران قد استعدّت لها، فقد ظلّت إيران تتجنّب العواقب السياسية والعسكرية والاقتصادية والقانونية للمجابهة المباشرة، واستعاضت عنها بمشاغلات عسكرية يقوم بها أنصارها، وكلّ من هؤلاء له قضيته الخاصة، قبل الثورة الإسلامية وبعدها، سواء في فلسطين أو سوريا أو لبنان أو العراق أو اليمن. 

ولم تكن عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023) محطة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي فحسب، بل في الصراع الإيراني – الإسرائيلي، وعلى الرغم من أن طهران أعلنت عدم علمها بتوقيتات حماس، إلّا أنها أعربت عن تأييدها ودعمها لها، انطلاقًا من سياسة جرى اعتمادها تحت عنوان “وحدة الساحات“.

 إن إعلان تل أبيب الحرب المفتوحة على طهران (13 حزيران / يونيو 2025)، واستهدافها للمفاعلات النووية، جعل المواجهة المباشرة قائمة، وهكذا أصبح المحظور واقعًا، وللضرورة أحكامها كما يُقال، فما أن بدأت المعركة حتى كان موضوع الصبر الاستراتيجي في خبر كان.

 لم يكن العدوان الإسرائيلي بعيدًا عن خدعة استراتيجية، خصوصًا بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته عن جديتهما في إبرام اتّفاق نووي جديد مع إيران، وكانت المفاوضات قد أحرزت تقدمًا ملموسًا باعتراف الطرفين، بالرغم من صعوبتها وتعقيداتها، لذلك لم يكن أحد ليتكهّن أن الحرب أصبحت وشيكة، لأن ثمة جولات أخرى كانت تنتظر المفاوضات، حتى بعد انقضاء مهلة اﻟ 60 يومًا. 

ذكرتنا “النكسة” الإيرانية“، إذا جاز لنا وصفها، بنكستنا العربية في حزيران / يونيو العام 1967، خصوصًا بعنصر المباغتة من جهة العدو، والخدر من الجهة الأخرى، على الرغم من أن الفارق هو 58 عامًا، فكل ما كان “سرًّا” أو جرى “التكتّم” عليه، كان أقرب إلى إعلان مباشر أو شبه مباشر عن الشروع بالعدوان والتحضير له.

لم  يرغب  رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن تتوصّل واشنطن وطهران إلى اتّفاق بخصوص الملف النووي، وعارض بشدّة إجراء مفاوضات، وحين بدأت راهن على فشلها، لأنه كان يريد الحرب، فإسرائيل مشروع حرب مستمرّة، وهي بؤرة توتّر دائم في المنطقة منذ قيامها في العام 1948 وإلى اليوم، حيث مارست سياسة توسعية عنصرية إجلائية في فلسطين ومع دول الجوار العربي.

 وشعر نتنياهو بالمزيد من الغرور والغطرسة بعد جولاته وصولاته الحربية في الشرق العربي، فأراد استكمالها بالحرب على إيران، لأن توقّف الحرب يعني انتهاء مستقبله السياسي، بل الأكثر من ذلك، إحالته إلى القضاء بتهم تتعلّق بالفساد الداخلي، إضافة إلى الارتكابات التي قام بها في غزّة وعموم الأراضي الفلسطينية، وهو ما قررّت المحكمة الجنائية الدولية ملاحقته عليها.

لم تكن إسرائيل لتُقدم على عملية نوعية كبرى وحرب مفتوحة مع إيران لولا دعم الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، علمًا بأن هدفها الأساسي لا يتوقف عند وقف البرنامج النووي؛ وإنما يصل إلى الإطاحة بالنظام وتفكيك إيران؛ أي إعادة القديم إلى قدمه، وإنهاء ما تبقّى من الثورة التي أطاحت بحليفها شاه إيران محمد رضا بهلوي. ولا شك أن الغرب يشاطرها هذه التطلّعات، خصوصًا وهو يسيل لعابه على مصادر الطاقة التي تمتلكها إيران.

 وهذه الأهداف الثلاثة، حتى وإن كانت مترابطة ومتداخلة، إلّا أن تحقيق أي هدف منها سيخدم الأهداف الأخرى التي تأتي تباعًا، فتدمير قدرات إيران العسكرية، واغتيال علمائها وقادتها العسكريين والمدنيين، يعني إضعافها لقبول اتفاق الإذعان، سواءً فيما يتعلّق بالملف النووي أم  بالشروط السياسية، وقد يقود إلى زعزعة وضعها الداخلي. 

وكانت ساعة الصفر الإسرائيلية هي تكرار ما فعلته  في عدوانها على لبنان بقتل مراتب الصف الأول من قيادات حزب الله، وهو تكتيك طالما اعتُمد في الآونة الأخيرة، وقد سبق أن لجأت الولايات المتحدة إلى اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في بغداد، في 3 يناير / كانون الثاني 2020، وأبو مهدي المهندس نائب رئيس قوات الحشد الشعبي، تمهيدًا لاشتباكاتها مع إيران وفصائل عراقية مسلحة.

ومنذ اغتيال سليماني، وإيران تُعلن عن ردّها المؤجّل بتمسكها بنظرية الصبر الاستراتيجي بدلًا من الردّ المباشر، لأن الصراع طويل الأمد، وحتى عند بعض ردود الافعال المحدودة لم تنسبها إيران إلى نفسها أو برّرتها بما يخفّف منها أو يحدّ من توسيعها، مثل مقتل 3 جنود أمريكيين في الأراضي الأردنية، ومهاجمة منزل رجل أعمال كردي في أربيل، قالت أنه قاعدة للموساد الإسرائيلي، كما اشتبكت مع باكستان بزعم وجود جماعات إرهابية، سرعان ما ردّت عليها الأخيرة بقوّة.

فماذا آلت إليه خطة الصبر الاستراتيجي؟ ثمة من يقول أنها قادت إلى نوع من التنويم الذاتي المغناطيسي، بل ساهمت في تخدير اليقظة، ولاسيّما العسكرية، فحتى حين هاجمت إسرائيل إيران، لم يأت الردّ عليها إلّا بعد ساعات طويلة، ولكنه لم يكن ردًّا بالمستوى المطلوب، مع أنه كان موجعًا، فإسرائيل لم تتعرّض في جميع العدوانات التي قامت بها إلى ردود كبيرة كما هو الرد الإيراني، الذي ألحق أضرارًا معنوية ومادية بها، لكن ذلك لم يكن الرد الماحق والساحق الذي وعدت به إيران. 

لقد خططت إسرائيل للحرب على إيران منذ وقت ليس بالقصير، زاعمةً أنها حرب وقائية واستباقية، وذلك عودة إلى القانون الدولي التقليدي قبل الحرب العالمية الأولى، التي كان بوسع الدول أنّا شاءت أن تشنّ الحرب لتحقيق مصالحها القومية بزعم أن هجومها هو خير وسيلة للدفاع عن خطر وشيك الوقوع أو محتمل.

إن الهدف من الحرب ليس الملف النووي، وإنما المسألة أبعد من ذلك بكثير، فقد أصبح النظام الإيراني عقبة كأْداء بوجه مشاريع إسرائيل التوسعّية بسبب وقوفه مع المقاومة الفلسطينية، ولذلك أصبح مصدر خطر عليها، بغض النظر عن مشاريع إيران في العديد من البلدان العربية التي تثير حساسية عربية إزاء محاولاتها الهيمنة. 

وقد يكون من أهداف هذه الحرب إحداث تصدّع في الداخل الإيراني، ليأتي الجزء الأهم وهو التوغّل الناعم والتغلغل الهادئ بوسائل مكمّلة للعمليات العسكرية، وربما تراهن إسرائيل على حرب أهلية إيرانية، خصوصًا بعد الصدمات النفسية التي أحدثتها، الأمر الذي قد يسبب ردود أفعال داخلية حادة.

لقد عانت إيران من حصار دولي جائر أثّر سلبًا على حياة المواطن وفي تفتيت النسيج الاجتماعي، ناهيك عن تفاقم مشكلة المجموعات الثقافية المزمنة، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المزري، وانهيار العملة، فضلًا عن شحّ الحريّات، وكلّ ذلك استثمرته إسرائيل تمهيدًا للحرب، وهو ذات السيناريو الذي اتُّبع لتقويض النظام العراقي، والفارق بينهما أن الأخير جرى الإطاحة به عبر الغزو المباشر، في حين أن الأول يُراد تحطيم قدراته العسكرية دون تكرار خطأ أمريكا في العراق.

 وكان نتنياهو قد صرّح بتلذّذ سادي بما حصل بعد عمليات القصف على طهران بقوله: لا شيء يمنعني من الطيران فوق طهران، وما زاد المشهد سوداويةً هو تصريح الرئيس ترامب بأن على سكان طهران مغادرتها، كجزء من الحرب النفسية، أو ضمن خطة قد تقود إلى اشتراك واشنطن بالعمليات الحربية، خصوصًا إذا ما استهدفت مفاعل فوردو الشديد التحصين، حيث يمتدّ عمقه نحو 100 متر تحت جبل فوردو.

فماذا سيكون السيناريو المقبل؟ هل ستقدّم إيران تنازلات كما تناقلت وكالات الأنباء؟ وهل ستعود إلى المفاوضات؟ وعلى أية قاعدة؟ وهل ستوقف إسرائيل حربها قبل أن تحقّق أهدافها الرئيسية؟ أسئلة قاسية تواجه القيادة الإيرانية. وكان المرشد الأعلى الخامنئي قد أجاب على هذه الأسئلة بقوله: إنهم لا يعرفون الشعب الإيراني، وأن كلمة الاستسلام غير موجودة في قاموسه، لكن الأمر سيعتمد على مجريات الحرب، فإسرائيل لن ترض إلّا بهزيمة كاملة، وإيران لن ترضخ، وفي الاحتمالين فإن الحرب قد تطول وستكون مصارعة على الطريقة الرومانية القديمة التي قد تقود إلى مقتل أحد الطرفين وإنهاك الطرف الآخر لدرجة الإعياء حد الموت.  يبقى أن نتساءل ماذا ستكون ردود الأفعال إذا ما أُغلق مضيق هرمز ومضيق باب المندب، وهل ثمة أوراق أخرى تستطيع طهران أن تلعب بها؟

منوعات